من بيدر الحياة
قلوب معلقة بحبها ..!!
عبد السلام العابد
كنا نذهب إليها أنّى أردنا ، وحيثما شئنا ، ومتى استبدّ بنا الحنين والشوق إليها ، وهفت قلوبُنا للصلاة في مسجدها المبارك ، وقبة صخرتها المشرفة . لا تمنعنا الحواجز ، ولا بُعد المسافات ، ولا تحمل أعباء السفر . ما زالت أفئدتُنا معلقةً بحبها ، مذ كنا أطفالا صغارا في المدارس ، وكم كانت سعادتنا كبيرة ، حينما يُبلغنا معلمونا بالرحلة المدرسية التي ستقوم بها مدرستنا إلى القدس الشريف ، أولى القِبلتين، وثالث الحرمين ، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعراجه إلى السماوات العلا . وكانت فرحتنا تبلغ ذُروتها ، ونحن نتجول في مدينة القدس ، ونرى بوّاباتها ، ودروبها الضيقة والمزدحمة بالناس والبضائع والمسابح والتحف والمقتنيات التراثية الجميلة . ونتابع سيرنا إلى أن نصل إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك ، فتبهرنا قبة الصخرة المشرفة المذهبة ، والنقوش المحفورة على الجدران ، والآيات القرآنية ، والكتابات العربية المرسومة بالخطوط العربية الرائعة الجمال ، والأعمدة والأبواب ، والمغارة ، والصخرة ، والأجواء الروحانية المشبعة بالسكون والرهبة والخشوع والإيمان والرائحة الطيبة ، والدفء الناعم ، والفرحة الغامرة . وكم كنت أشعر بالارتياح النفسي والسكينة ، وأنا أتجول في قبة الصخرة ، والمسجد الأقصى ، والساحات المحيطة بهما !! . هذا الشعور لازمني في طفولتي وشبابي . وأكاد ألمسه في كل زيارة ، كنت أقوم بها إلى القدس الشريف .
في منتصف الثمانينيات ، وعلى مدى عام كامل تقريبا ، كنت أذهب إلى القدس في كل شهر مرة . لم تكن الحواجز والموانع تحول دون الوصول إلى القدس ، أو أية مدينة فلسطينية أخرى . كنت أنهي عملي ، وأجد نفسي مندفعا بشوق ، نحو المسجد الأقصى وقبة الصخرة ، فأصلّي هناك بخشوع . وأذكر ذات يوم أنني صعدت حافلة من شعفاط إلى القدس ، فوجدتها مليئة بركاب يتكلمون العبرية ، وحينما مرت الحافلة بطرق لا أعرفها ، سألت الراكب الجالس إلى جانبي بالعربية عن وجهة سفرنا ،فلم يفهم . أصابني يومها توتر وقلق وعدم ارتياح ، فنزلت من الباص ، لدى توقفه في أول محطة يقف عندها . وحينما نظرت حولي ، لم أجد إلا وجوها غريبة ، ورؤوسا تعتمر القبعات ، وتتدلى منها جدائل طويلة من الشعر ، فتذكرت أهلنا المشردين الذين عمروا هذه الديار ، ورددت البيت الشعري الخالد :
ولكن الفتى العربي فيها // غريب الدار واليد واللسان
تابعت مسيري ماشيا ، علني أجد عربيا يدلني على الطريق المؤدي للقدس ، وبعد فترة أوقفت شابا ، وسألته عن القدس فقال : ضيعوها !! . سألته : أين أنا الآن ؟ قال : في القدس الغربية . وإذا أردت الوصول إلى القدس الشرقية ، فعليك أن تصعد باصا محددا . سألته : وإذا أردت المشي على قدمي فأين أتجه ؟ . أجاب : المسافة طويلة ، ولكن بإمكانك أن تسير في هذا الشارع ، وستجد نفسك جهة باب الخليل . شكرته ، وأسرعت الخطو وحيدا ، فوق رصيف يغص بالغرباء ، فيما كانت سماء القدس مليئة بالغيوم المنذرة بالمطر . وصلت باب الخليل ، وانعطفت جهة الشرق ، وسرعان ما بدأت الوجوه العربية الفلسطينية تتراءى أمام عيني ّ ، فشعرت بالسعادة والاطمئنان والهدوء . جلست قرب كشك ؛ لأستريح قليلا ، وأحتسي كأسا من الشاي المنعنع ، فيما كانت قبة الصخرة المشرفة تتلألأ أمام ناظري ، بلونها الذهبي ، وعبق تاريخها البهي ، وجاذبيتها النورانية المقدسة ، وندائها الخالد لأحبتها بزيارتها ، والمجيء إليها ، والتواصل معها ، وعدم نسيانها ، والصلاة فيها وفك القيود عن معصميها .