وجه يطلع من بين الركام
عبد السلام العابد
أفقت من نومي المضطرب بعيد منتصف الليل . الجو موحش ، وللبرْد أصابع فولاذية تقص المسامير، و الصمت يلف ليل القرية الهادئة ، غير أن صوت طائرات بعيدة يتناهى إلى مسمعي من جهة الغرب . أتساءل : ما وجهة هذه الطائرات الكريهة ؟ وهل تسير الآن فوق البحر متجهة إلى جنوب الوطن ، حيث مدينة غزة وما جاورها من قرى ومدن ومخيمات ؟ ، وعلى من ستصب نيران حقدها وغضبها ؟ ، وما طبيعة المآسي والفواجع التي ستخلفها وراءها ؟ . شبكت أصابع كفي ، ووضعتها تحت رأسي ، وحملقت في سقف الغرفة المظلم ، ورحت أسترجع في ذهني المشاهد البشعة ، والمناظر المروعة التي شاهدتها على شاشة التلفاز : أجساد مقطعة الأوصال ، أيادٍ مبتورة ، وجوه مختفية الملامح ، أطفال ميتون ، والبراءة تشع من وجوههم الطرية ، وكأنهم نائمون في أسرتهم ، وعلى شفاههم ابتسامات ساخرة ، تدين صمتنا وجبننا وظلمنا ، وهمجية عدونا ، وموت ضمير العالم كله من الماء إلى الماء . عمارات مهدومة ، وبيوت سقطت على ساكنيها ، وبانت جثثهم أو أجزاء منها تحت الأنقاض ، وثمة وجه طفلة ناعمة مثخن بالجراح ، وتسيل منه الدماء ، يطلع من بين ركام البيت المتهدم ، فيما يغرق بقية جسمها حتى العنق بين الركام ، وكأنها وردة حمراء مهشمة طالعة من بين الصخر وتقاوم ريحا عاتية . هذا الوجه البريء يصرخ في وجه العالم كله : لماذا تسكتون على هذا العدوان الاحتلالي البغيض ؟ ولماذا سمحتم بهذه الحرب اللعينة ؟ . وأي مبررات تسوقونها لتفسير جرائمكم وسكوتكم ؟ . قتلتم أمي وأبي وأخواتي وأخوتي ، وقصفتم بصواريخ مدافعكم وطائراتكم بيتنا المتواضع الذي شقي أبي في بنائه ، وأمضى زهرة عمره وهو يبنيه ؟ . هل كان لا بد من قتلنا ودفننا تحت أنقاض بيوتنا ؛ حتى تتحقق أهدافكم الشريرة ، وأطماعكم العدوانية ؟! .
وتطل أمام عيني صور النساء الباكيات ، والأطفال المجروحين ، والرجال الغاضبين ، فيما تحلق فوق رؤوسهم عقارب الموت المتوحشة ، والوحوش الفولاذية المفترسة ، وهي تلقي قذائف الحديد على البيوت والمباني وأجساد البشر . لا أحد يستطيع وقف العدوان . لا أحد يتمكن من إغلاق فوهة الحرب . لا الاحتجاجات ، ولا المظاهرات ، ولا عبارات الشجب ولا الاستنكار والإدانة . كان الله في عونكم يا أبناء شعبنا . كان الله في عونك يا غزة . عليك أن تتحملي ، وأن تصبري على ظلم القريب والبعيد .واصلي صمودك يا غزة ، تحت النسف والقصف والفتك والضرب والهدم ، وليتفرج هذا العالم على أفلام الحروب والرعب على الهواء مباشرة . وليستمر المحللون الإستراتيجيون في تحليلاتهم ، وليشرح السياسيون والخبراء الأبعاد المختلفة لهذا العدوان ، وليدل كل خبير بدلوه ، وليطلب المناضلون المترفون المزيد المزيد من الثبات والصمود والمواجهة حتى آخر طفل من أطفالك !!! .
سؤالان يقفزان إلى الذهن ، في هذا الليل الموحش : ترى ، بماذا يحلم السياسيون والمحللون والقادة والزعماء والمطبلون والمزمرون والناعقون والمناضلون المترفون ، وهم غارقون الآن في سباتهم العميق على أسرتهم الوثيرة الدافئة ، في هذا الوقت المتأخر من هذا الليل الشتوي البارد ؟!!! . وكيف تسهر غزة الآن وحيدة حزينة ،مرهقة تئن وتتوجع ، تحت نيران القصف والخوف والرعب وغياب الأمن والأمان ؟! .