في البر
عبد السلام العابد
أمضينا يوم عطلتنا في البر . حملنا زادنا وماءنا واحتياجاتنا ، وذهبنا إلى أرضنا ، في الجبل القريب . إنها فرصة سانحة ؛ لتغيير الأجواء ، وتهدئة النفوس ، وإراحة الأعصاب القلقة والمضطربة ؛ بسبب الأحداث المتسارعة والمؤلمة التي تجري في وطننا .
لأول مرة تصل السيارة إلى حافة أرضنا المرتفعة ، تعاون أصحاب الأراضي القريبة ، وأحضروا جرافة كبيرة ، ووسعوا الطريق الجبلية ، ورصفوها بالحجارة والصرار والتراب الأبيض ، فأصبحت سالكة بيسر وسهولة ، للجرارات الزراعية ، والمركبات الصغيرة والكبيرة . بادر لتنفيذ هذه الفكرة رجل يرغب في بناء مزرعة في أرضه ، ثم آزره الجيران المستفيدون من هذا الطريق . ثمة آثار إيجابية تعود على المواطنين . حيث سيتمكنون من الوصول إلى أراضيهم ، في وقت قليل وجهد ضئيل ، وسيرى العجائز أشجارهم التي زرعوها وخدموها في شبابهم المبكر ، وسيقيلون في ظلالها ، ويشاركون في خدمتها من جديد ، ما دامت المركبة التي تقلهم تصل إلى المرتفعات العالية دون معاناة ، وستتضاعف خدمة الأرض حراثة وتعشيبا وسقاية ، الأمر الذي يساهم في تحسين نوعية الإنتاج ، وزيادة كمية المحصول ، ومن يدري ؟ فربما تكونت هنا ضاحية جديدة في السنوات القليلة القادمة ، سيما وأن التيار الكهربائي سيصل إلى هذا المكان قريبا . ولعل في تعمير الجبال منفعةً كبيرة أخرى ، تتمثل في وقف الزحف العمراني ، إلى المروج والسهول الصالحة للزراعة .
وصلنا إلى أرضنا التي بدت مشرقة ، بعد هطول الأمطار مؤخرا . أشجار الزيتون خضراء يانعة ، وأشجار اللوز القليلة زاهية ، وقد كسا يباسَها النوارُ الأبيض ، والمشرب بالحمرة . الأعشاب الخضراء ، والحنون والأزاهير والرياحين البرية تملأ وجه الأرض . والشمس ترسل أشعتها الدافئة ، فتزيد الطبيعة بهجة وروعة .
شمرنا عن سواعدنا ، واقتلعنا شجيرات السّويد الشوكية ، رغم لسعات الأشواك التي انغرست في أكفنا ، وجمعناها في أكوام ، ووضعنا الأغصان والحشائش اليابسة تحتها ، وأشعلنا فيها النيران ، فارتفعت ألسنة اللهب ، وانتشر الدخان ، وارتاحت الأرض من هذه الشجيرات الطفيلية التي ــ ربما ــ تضرها ولا تنفع الإنسان ، حيث كانت تمد جذورها ، وتمتص الغذاء والماء ، وتحول دون زراعة غراس مفيدة أخرى في بقع الأرض التي تنتشر فيها ، بل إن هنالك غراسا صغيرة كانت معتقلة بين براثن السويد ، وقد حررناها ، وأبعدنا الصخور والحجارة عنها وعزقنا تربتها ، فرأت النور والشمس لأول مرة ، وأصبح منظرها يسر الناظرين ، ولن تمر سنوات قليلة ؛ حتى تنمو وتكبر و تطرح ثمارها .
وقبيل أن تجنح الشمس نحو المغيب ، ألقينا أنظارنا نحو أرضنا ، فوجدناها أكثر رونقا وجمالا ، بعد حملة التصليح والتعمير التي قمنا بها . وتبلور لدينا رأي بزراعة أشتال زيتون جديدة ، في المساحات التي تم تحريرها من الصخور وشجيرات السويد .
استرحنا ، ووضعنا إبريق الشاي إلى جانب جمرات مشتعلة ، وتناولنا ألذ وجبة غداء مكونة من خبز نسخنه على النار ، ونغمسه بالزيت المملح ، إلى جانب حبات من الزيتون . وبعد الغداء شربنا أقداحا من الشاي الأحمر اللذيذ ، ورحنا نسترجع سيرة الآباء والأمهات والأجداد والجدات .. هؤلاء الأحبة الذين رحلوا ، وتركوا لنا آثارهم الخالدة ، في هذه الجبال العالية التي خدموها وأحبوها ، وزرعوها أشجارا تموج بالخصب والخضرة والحياة .